الأحد، 24 مايو 2015

صورتين للقهر

ومضة أولى: رضا تلف حبل المشنقة حول رقبتها.

قبل أن ترشق دليلا بالمادة المشتعلة وتحرقها بعود الثقاب... لجأت لملاذها الاخير كي ترى العالم أمامها متبجحا بما يأخذ منها وما يعطيها بالمقابل "أنا تعبت من البهدلة ... أنا تعبت من البهدلة" ... أتعبتها الحياة فكان حبل المشنقة أرحم من الغد الذي يطلب منها ان تعيل اخوتها ... وان تمسح الارض من تحت قدمي دليلا وأن تأكل لجوار الكلب في مطبخ الأسياد ...
ماذا تحكي رضا لنا؟ وكم رضا تستنشق رائحة العطر الفاخر وهي تمسح البلاط تحت أقدام عاشقة مترفة لديها كل شيء؟ هل تدري تلك العاشقة المترفة ان العاشقة التي تمسح البلاط من تحت قدميها تعرف عن الحياة ما لا تعرفه؟

تبرير أول

لم بطلة هذه المدونة رضا وما الذي يدفعني للكتابة عنها، والشخصيات الاخرى أكثر قربا للحدث اليومي في فلسطين، لماذا التصقت أكثر بالشخصية القادمة من الصعيد والتي تمثل مصر بضبابيتها اكثر من غيرها، حال النساء يهربن وتهزمهن قصص حبهن التي عادة ما تدون نهاية بكلمة لا نهاية او نهاية تعيسة ...
رضا هي هنا وهناك وفي كل مكان ناهيك عن ان هذه الشخصية بسيطة شابة عادية غير متكلفة الا انها نقية تمثل فعل الانتقام بلا نرجسية الخير والشر ... قتلت رضا نعم ولكن كم مرة قتلت رضا؟ خسرت الرجل في اباها عندما مد يده وتركها لكي تعيل عياله وهي شابة لديها احلام ترنو اليها، وكسر الرجل في الشاب الذي أحببته فأصبحت بلا ملاذ أين تذهب وهي القوية لن تستلم "لوسخ الحياة" فاشعلت النار في جسد دليلا التي ما انفكت الا ان تمثل حالة أغلب النساء المتباهيات.

مشهد آخر أخير

وقفت رضا تردد "أشهد أن لا اله الا الله وان محمد رسول الله " وتتوب إلى الله، والدمع يقطر من عينيها كدم نازف من قلب معلق بين شطي النيل، لم تترك الحياة رضا لتعيش ما تريده فاختارت رضا ان تقلب المعادلة وليتعس الاغنياء ايضا، نعم انها الجريمة التي لا براءة منها والتي تقتضي بالموت شنقا، ولكن هل شنق الوقت وهو يقطع احلامها اربا، اربا وهل أكترث الكل لدمعها وهي توزع كؤوس الشراب يوم خطبة دليلا، هل انتاب دليلا أي حزن جاد على الخادمة التي تمسح البلاط عندما كانت تتصل بحبيبها لتخرج.

مسألة حسابية

إنها معادلة الأغنياء والفقراء، في كل وطن هناك رضا التي تكبر منتظرة ان تتخطى الربيع الأول والثاني، لكن لعل رضا لن تمسح البلاط في بيت أغنياء آخرين، لعلها ستحب وتتزوج ولا تعيل اخوتها، قبل أن تصبح قادرة على ذلك، لعلها لا تضحي بحلمها لتصبح قاتلة بسبب قانون الغنى والفقر، الحاجة والعوز، لرضا عالم يكبر في داخلها كما لدليلا، لماذا أرى دليلا ورضا في كل مكان، لأن دليلا ورضا في كل مكان، لأن رضا مجرمة بالفطرة ودليلا بريئة بنفس الفطرة وعلى الأولى أن تموت شنقاً وعلى الثانية أن تكون المجني عليها.
لا تحاسبوا آبائهن ولا أمهاتهن ولا تفتحوا صفحات ماضية في قلوبهن لتروا التعاسة أو كم مرة خذلت أحلامهن، لا تنبشوا في الماضي لكي تروا صورة لحقيقة غائبة عن الذهن، لا تمنحوا الوقت أي فرصة لحديث عابر مع روح فتاة تعد الطعام لفتاة في عمرها وتقول لها "يا ستي" فترد عليها بفظاظة "انتي مين" هذه ليست معادلة الهيه، ليست معادلة حق أو فطرة او طبيعة، انها معادلة الجشع الذي يجعل في قلب كل فتاة غصة أساسها ظلم حياة جعلها تتشبث بخلاص أساسه رجل.

ومضة ثانية: عن حبيشة والقانون الخاص.

بجسده العادي، وتفاصيل يومه البسيط يرقد حبيشه على الأرض بعد يوم عمل عادي ليأكل الطعام الصعيدي الذي أعدته والدته له، تفرض عليه اخلاقه التي لم يتعلمها في مدارس الاغنياء ولا حتى الفقراء أن يعيل أمه وأخته وأن يأخذ واجب العزاء في خالته الجارة التي انتحرت لضيق الوقت والحياة في ناظريها، حبيشة الذي لم يسكت صوت النجدة في قلبه أصبح مجرم لجريمة اقترفها ابن الوزير الجشع، وسكرتيره "كلب السيد" الذي يتقن فن الاحتيال "اليبرالي الجديد،" وعليه اقتضت المسرحية التي اعدها المخرج أن يكون القتل المشهد الأخير.
عندما تحول الحصار إلى حالة استثنائية فرضت على الشرطة، كيف بنى المجتمع مقاييس للظلم والخير بعيدة عن الطبيعة الخاصة للنظام، عندما أصبحت الغشاوة التي تطغى على العقول والقلوب مجرد كذبة اقنعتنا بها الأنظمة المنحازة للمال والفساد ورائحة التبغ المحترق، وصمة العار التي تتلاشى في مجتمع مقاوم بنموذج بسيط "العشوائيات لات خرج سوى القتلة المجرمين الفاسدين،" هاي العشوائيات تخرج مقهورين يتحول قهرهم الى معركة فناء هدفها ألا يعيش الظلم أكثر.
لم يدفن  رأسه في أكوام من حسابات الاغنياء بطريقة "أحنا مالنا، ما يولعوا " عندما سمع يسر وصديقتها عزيزة تستنجد من وراء الباب، بقوة خرافية كسر حبيشة الباب ليصبح بعدها المتهم الأول في القضية.

النظام الذي لا يعرف سوى الاحتيال

عندما اجتر حبيشة لمسرح الجريمة ليمثل جريمة لم يرتكبها، ووقفت أم يسر وأمه والكل صامتين، وعندما اشعلت أم حبيشة النار في الكشك، كانت هناك نار أكبر تعتزم أن تخرج من قلب حبيشة، لتشعل طرف النظام لتحول اللا قانون إلى قانون عظيم، يقف الشخص منا أمامه لبرهة ويتنمى "أخ بس لو يصير هيك" باختصار عندما تتحول الدراما الى أمنية نتوق اليها.

ولادة صعلوك آخر

حبيشة الولادة المختصرة لصعلوك، بعد أن قضى عمره في عمله البسيط يرى في المثل "امشي الحيط الحيط وقول يا الله الستيرة." مبدأ للحياة في شارع عبدته دماء وعرق المقهورين يوميا، وهو يمشون من فضاء عشوائي يتمرغون فيه بالوحل والطين والظلم والقهر والدونية، تمرغ ايضا بشجب الظلم، بولادة اللا من القهر، بثقافة "أنا الي حرجع الحق للصحابة،" حارة حبيشة هي الميدان إلى الحرية، إلى انقلاب الموازين عندها فقط يتهاوى النظام، يسقط حتى نهايته، عندها فقط لا يكون على مصر أن تنصاع لأحلام مدينة جديدة، أو أن تغرق في جدل طويل حول شرعية العسكر أو الأخوان.

فناء جسد حبيشة

فناء جسد حبيشة في مشهدية القتل تلك، كان نتيجة طبيعية لضعف النظام، لانكشافه أمام فقراء لا يفكرون كثيراً بهموم إضافية عندما تعلو لغة القهر على وجع الحياة، حينها يتعطل العمل بواقع أصوات المعدة الفارغة لتسلب لغة "مش حاسكت... مش حرضى... وحاخذ حقي بدراعي." حياة الاغنياء سلب، فينتزع حقه انتزاع من بين فكي النظام.
يدوي صمت رهيب على المكان في مشهدية الموت، لحظة يتجمد فيها كل شيء،  يصمت الكل، هاقد مات حبيشة، الإنسان الوحش في الحارة الدونية الملعونة، في المقابل سقط الوزير على جسد ابنه المدلل يبكي، هذا البكاء يعني انتصار حبيشة، وغلبة قانونه الخاص على قانون الدولة والاغنياء، تبعثر تبغ الاغنياء وكحولهم وموسيقاهم وترفهم في لحظة قلب فيها حبيشة المعادلة، وكان صوت الانفجارات في الحارة العشوائية، يعيد للأذهان أوامر حكام الانتداب بإطلاق النار على كل المزارعين في صعيد مصر لعصيانهم الأوامر، فيرد المزراعين بحرق مزارع الانتداب في الصعيد، فيطلق الحاكم النار وهو غاضب وترحب أجساد المزارعين بالنار لانها لا تحرقهم فقط بل تعيدهم للحياة بكرامة مرة أخرى.
وسيظل حبيشة ذلك الشخص الذي يرتاد الموالد ويقف في منتصف الحلقة ويقول "الله حي،" سيظل الصعلوك الذي يبحث عنه أهل الحارة، وإن وقفت وسألت عنه سيكون البطل، بطل منسي لن تشيد له الحكومة له نصبا بإسمه "محرر" فهو مجرد مجرم، تهمته الوحيدة أنه الانسان العادي الذي يلبي نداء الواجب تقربا لله كل مرة.

 جنائزية ثرية للفقراء

بين رضا وحبيشة فارق بسيط يفرضه واقع الاغنياء، الذين ما ينفكون ينتهكون انسانية الفقراء بدعوى الاجرام والشر، إن القتل يصبح مباح عندما يقتل الانسان في قلوب البشر بصفتهم مواطنين بلا درجة في أوطاننا المشتبه بها، نظرية الهموم الطاغية التي تحولنا من حالمين ثائرين ورافضين ومقهورين، الى قتلة في إطار قوانين وضعت ليحتال بها الاغنياء علينا.
إن رضا اختارت أن لا تجثوا على البلاط مرة أخرى، وشبح دليلا ظل يلاحقها، هي بحرق دليلا حرقت قهر سنين احتبس، ندمت لكن ماذا يعني ندمها في هذا العالم الكبير؟
أما حبيشة انقهر فالتصق بقهره، فعاد الى الحارة ليحارب القهر الكبير، حبيشة وجد قهره جزء من قهر أكبر، فحول الحارة الى ساحة معركة لا تنتهي، الصق تهمة التمرد بالحارة، وغدا بطلا في أذهان اقرانه.

لن يصرخ الأغنياء أكثر فلا صوت لهم، صرخة مقهور واحدة تطغى على أفراحهم وأحزانهم فتحيلها إلى رماد .


كتب نص رضا في 30/12 /2014 تم استكمال نص حبيشة في يوم   22/5 /2015 وهيك كملت المدونة.

سمر عزريل 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق